سورة الإسراء - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


{وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا (52)}.
يقول تعالى مخبرًا عن الكفار المستبعدين وقوع المعاد، القائلين استفهام إنكار منهم لذلك: {أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا} أي: ترابًا. قاله مجاهد.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: غبارًا.
{أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} أي: يوم القيامة {خَلْقًا جَدِيدًا} أي: بعد ما بلينا وصرنا عدمًا لا يذكر. كما أخبر عنهم في الموضع الآخر: {يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ* أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً* قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} [النازعات: 10- 12] قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78، 79].
وهكذا أمر رسوله هاهنا أن يجيبهم فقال: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} وهما أشد امتناعا من العظام والرفات {أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ}
قال ابن إسحاق عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: سألت ابن عباس عن ذلك فقال: هو الموت.
وروى عطية، عن ابن عمر أنه قال في تفسير هذه الآية: لو كنتم موتى لأحييتكم.
وكذا قال سعيد بن جبير، وأبو صالح، والحسن، وقتادة، والضحاك.
ومعنى ذلك: أنكم لو فرضتم أنكم لو صِرْتُم مَوْتًا الذي هو ضد الحياة لأحياكم الله إذا شاء، فإنه لا يمتنع عليه شيء إذا أراده.
وقد ذكر بن جرير هاهنا حديث: «يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كَبْش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة، أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم. ثم يقال: يا أهل النار، أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم. فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة، خلود بلا موت، ويا أهل النار، خلود بلا موت».
وقال مجاهد: {أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} يعني: السماء والأرض والجبال.
وفي رواية: ما شئتم فكونوا، فسيعيدكم الله بعد موتكم.
وقد وقع في التفسير المروي عن الإمام مالك، عن الزهري في قوله {أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} قال: النبي صلى الله عليه وسلم، قال مالك: ويقولون: هو الموت.
وقوله تعالى {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا} أي: من يعيدنا إذا كنا حجارة أو حديدًا أو خلقًا آخر شديدًا {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي: الذي خلقكم ولم تكونوا شيئًا مذكورًا، ثم صرتم بشرًا تنتشرون؛ فإنه قادر على إعادتكم ولو صرتم إلى أي حال {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27].
وقوله تعالى: {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ}: قال ابن عباس وقتادة: يحركونها استهزاء.
وهذا الذي قالاه هو الذي تفهمه العرب من لغاتها؛ لأن الإنغاض هو: التحرك من أسفل إلى أعلى، أو من أعلى إلى أسفل، ومنه قيل للظليم- وهو ولد النعامة-: نغضًا؛ لأنه إذا مشى عَجل في مشيته وحَرَك رأسه. ويقال: نَغَضَت سنُه إذا تحركت وارتفعت من مَنْبَتها؛ قال الراجز:
ونَغَضَتْ مِنْ هَرَم أسنانها ***
وقوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ} إخبار عنه بالاستبعاد منهم لوقوع ذلك، كما قال تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الملك: 25]، وقال تعالى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا} [الشورى: 18].
وقوله: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} أي: احذروا ذلك، فإنه قريب إليكم، سيأتيكم لا محالة، فكل ما هو آت آت.
وقوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} أي: الرب تعالى {إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 25] أي: إذا أمركم بالخروج منها فإنه لا يُخالَف ولا يُمَانع، بل كما قال تعالى {وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50] {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] وقال {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ. فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 13، 14] أي: إنما هو أمر واحد بانتهار، فإذا الناس قد خرجوا من باطن الأرض إلى ظاهرها كما قال: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} أي: تقومون كلكم إجابة لأمره وطاعة لإرادته.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} أي: بأمره.
وكذا قال ابن جريج.
وقال قتادة: بمعرفته وطاعته.
وقال بعضهم: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} أي: وله الحمد في كل حال، وقد جاء في الحديث: «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم، وكأني بأهل لا إله إلا الله يقومون من قبورهم ينفضون التراب عن رءوسهم، يقولون: لا إله إلا الله». وفي رواية يقولون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34] وسيأتي في سورة فاطر إن شاء الله تعالى.
وقوله: {وَتَظُنُّونَ} أي: يوم تقومون من قبوركم {إِنْ لَبِثْتُمْ} أي: في الدار الدنيا {إِلا قَلِيلا}، وكما قال: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46] وقال تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا} [طه: 102- 104]، وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} [الروم: 55]، وقال تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 112- 114].


{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)}.
يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباد الله المؤمنين، أن يقولوا في مخاطباتهم ومحاوراتهم الكلام الأحسن والكلمة الطيبة؛ فإنه إذ لم يفعلوا ذلك، نزغ الشيطان بينهم، وأخرج الكلام إلى الفعال، ووقع الشر والمخاصمة والمقاتلة، فإن الشيطان عدو لآدم وذريته من حين امتنع من السجود لآدم، فعداوته ظاهرة بينة؛ ولهذا نهى أن يشير الرجل إلى أخيه المسلم بحديدة، فإن الشيطان ينزغ في يده، أي: فربما أصابه بها.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمر، عن همام، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يشيرنّ أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان أن ينزع في يده، فيقع في حفرة من نار».
أخرجاه من حديث عبد الرزاق.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، أنبأنا علي بن زيد، عن الحسن قال: حدثني رجل من بني سَلِيط قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في أزْفَلَة من الناس، فسمعته يقول: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله، التقوى هاهنا- قال حماد: وقال بيده إلى صدره- ماتواد رجلان في الله فتفرَّق بينهما إلا بحدث يحدثه أحدهما والمحدث شَر، والمحدث شر، والمحدث شر».


{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا (55)}.
يقول الله تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ} أيها الناس، من يستحق منكم الهداية ومن لا يستحق {إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} بأن يوفقكم لطاعته والإنابة إليه {أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ} يا محمد {عَلَيْهِمْ وَكِيلا} أي: إنما أرسلناك نذيرًا، فمن أطاعك دخل الجنة، ومن عصاك دخل النار.
وقوله: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} أي: بمراتبهم في الطاعة والمعصية {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ}، كَمَا قَالَ: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253].
وهذا لا ينافي ما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تفضلوا بين الأنبياء»؛ فإن المراد من ذلك هو التفضيل بمجرد التشهي والعصبية، لا بمقتضى الدليل، فإنه إذا دل الدليل على شيء وجب اتباعه، ولا خلاف أن الرسل أفضل من بقية الأنبياء، وأن أولي العزم منهم أفضلهم، وهم الخمسة المذكورون نصا في آيتين من القرآن في سورة الأحزاب: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7]، وفي الشورى في قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]. ولا خلاف أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضلهم، ثم بعده إبراهيم، ثم موسى على المشهور، وقد بسطنا هذا بدلائله في غير هذا الموضع، والله الموفق.
وقوله: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} تنبيه على فضله وشرفه.
قال البخاري: حدثنا إسحاق بن نصر، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمر، عن هَمَّام، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خُفف على داود القرآن، فكان يأمر بدابته لتُسْرج، فكان يقرأ قبل أن يَفْرغ». يعني القرآن.

7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14